[center]بسم الله الرحمن الرحيم
لما كان الورع هو ترك الشبهات فقد ظهرت منزلته بين العبادات الإسلامية فإذا كان المطعم الحلال وترك الشبهات هو أساس قبول العبادات واستجابة الدعوات فإن الورع وترك الشبهات هو أساس الترقي في الدرجات الإيمانية والمنازلات الإحسانية وهذا ما يشير إليه الحديث النبوي الشريف {كُنْ وَرِعاً تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ}[1]
والحديث الآخر الذي يقول {لاَ يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لاَ بَأْسَ بِهِ حَذَراً لِمَا بِهِ الْبَأْسُ}[2]
ولهذا نجد أن سلفنا الصالح اهتموا بالورع غاية الاهتمام حتى قال الإمام أبو بكر الصديق رضي الله عنه {كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام}[3]
وقد أسّسوا ورعهم بالإضافة إلى ما سبق على قول الله عز وجل {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} المؤمنون51
حيث رتّب الله العمل الصالح على أكل الطيبات {الحلال} وقوله سبحانه وتعالى {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ} التوبة109
واستعانوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم {دَعْ مَا يَرِيْبُكَ إلى مَا لاَ يَرِيْبُكَ}[4]
وقد توسّعوا في هذا المجال حتى أنهم أدخلوا الورع في كل شيء ولم يقصروه على التورّع في المطعم فقط فهناك ورع في المنطق وورع في المناصب والرياسة وورع في حركات الظواهر وورع في خواطر السرائر وأسّسوا ذلك على قوله صلى الله عليه وسلم {مِنْ حُسْنِ إسْلاَمِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ}[5]
وقد بلغ سلفنا الصالح في الورع مبلغا عظيما قلّ أن يجود الزمان بمثله حتى جعلوه الأساس الذي يصلح الدين فقد دخل الحسن البصري مكة فرأى غلاما من أولاد على بن أبى طالب رضي الله عنه قد أسند ظهره إلى الكعبة يعظ الناس فوقف عليه الحسن وسأله ما ملاك الدين؟ فقال الورع قال فما آفة الدين؟ فقال الطمع فتعجب الحسن منه وقال مثقال ذرة من الورع السالم خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة
وكان إمامهم في ذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى أبو هريرة
{أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : «كخ كخ ارْمِ بِها أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ؟}[6]
أي ألقها وكذلك ما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه أرق ليلة فقال له بعض نسائه أرقت يا رسول الله فقال {إنِّي وَجَدْتُ تحتَ جَنْبِي تَمْرَةً أكَلْتُهَا وكانَ عِنْدَنا تَمرٌ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ منْهُ}[7]
وأيضا ما روى عن الخلفاء الراشدين ومن ذلك أن عمر رضي الله عنه وصله مسك من البحرين فقال وددت لو أن امرأة وزنت حتى أقسمه بين المسلمين فقالت امرأته عاتكة أنا أجيد الوزن فسكت عنها ثم أعاد القول فأعادت الجواب فقال لا أحببت أن تضعيه بكفة ثم تقولين فيها أثر الغبار فتمسحين بها عنقك فأصيب بذلك فضلا على المسلمين
وكان يوزن بين يدي عمر بن عبد العزيز مسك للمسلمين فأخذ بأنفه حتى لا تصيبه الرائحة وقال : وهل ينتفع منه إلا بريحه؟
أما ما ورد عن السلف الصالح في ذلك فشيء كثير جدا لا نستطيع ذكره كله ولكن نكتفي ببعض النماذج المضيئة في هذا المجال :
فمن ذلك أن أخت بشر الحافي ذهبت إلى أحمد بن حنبل وقالت : إنا نغزل على سطوحنا فتمر بنا مشاغل الظاهرية ويقع الشعاع علينا أفيجوز لنا الغزل في شعاعها فقال أحمد : من أنت عفاك الله تعالى؟ فقالت : أخت بشر الحافي فبكى أحمد وقال : من بيتكم يخرج الورع الصادق لا تغزلي في شعاعها
ومن ذلك أن ابن المبارك رجع من مرو إلى الشام في قلم استعارة فلم يرده على صاحبه
ومن ذلك أن أحمد بن حنبل رحمة الله تعالى رهن سطلاً له عند بقال بمكة فلما أراد فكاكه أخرج البقال إليه سطلين وقال خذ أيهما لك فقال أحمد : أشكل على سطلى فهو لك والدراهم لك فقال البقال : سطلك هذا وأنا أردت أن أجربك فقال : لا آخذه ومضى وترك السطل عنده
ومن ذلك أن ابن سيرين اشترى أربعين حّبا سمنا فأخرج غلامه فأرة من حبّ فسأله من أي حب ّ أخرجتها ؟ فقال : لا أدرى فصبّها كلها
ومن أعجب ما روى في ذلك أن أبا يزيد البسطامى رضي الله عنه اشترى بهمذان حب القرطم ففضل منه شيء فلما رجع إلى بسطام رأى فيه نملتين فرجع إلى همذان فوضع النملتين
ويحكى أن أبا حنيفة كان لا يجلس في ظل شجرة غريمه ويقول : في الخبر كل قرض جرّ نفعا فهو ربا
وقيل إن أبا يزيد غسل ثوبه في الصحراء مع صاحب له فقال صاحبه : تعلق الثوب في جدار الكرم {الحديقة} فقال : لا لا تغرز الوتد في جدار الناس فقال: نعلقه في الشجر فقال : لا إنه يكسر الأغصان فقال : نبسطه على الاذخر {الحشائش} فقال : لا، إنه علف الدواب لا نستره عنها فولى ظهره إلى الشمس والقميص على ظهره حتى جفّ جانب ثم قلبه حتى جفّ الآخر
[1] رواه الشيخان عن أبى هريرة [2] رواه ابن ماجه [3] ورد في إحياء علوم الدين ومدارج السالكين [4] أخرجه النسائي والترمذي والحاكم من حديث الحسن بن على رضي الله عنهما [5] رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبى هريرة [6] رواه البخاري من حديث أبى هريرة [6] رواه أحمد من رواية عبد الله بن عمر
منقول من كتاب ( مائدة المسلم بين الدين والعلم )
للشيخ فوزى محمد ابو زيد
يمكنكم تحميل الكتاب مجانا من
الموقع الرسمى للشيخ فوزى ابو زيد
قسم المولفات المطبوعه